الناظر إلى حال التعليم المعماري في مصر قد يدرك بسهولة أن ثمة أزمة ما محدقة به ، أعتقد أن الأزمة تكمن في “انتقال الصفات الوراثية المعمارية” عبر أجيال من قدامى المعماريين إلى محدثيهم ..وهو مانحاول نتناوله بالنظر والتمحيص ..
وفكرة ” الصفات الوراثية” ذاتها قد أوحى إلي بها أحد الأصدقاء من المعماريين العائدين من اوروبا عندما دون لي ملاحظة عن الفرق الجوهري الملموس من اختلاطه بالمعماريين الأجانب قال فيها:” في مصر فقط تشعر أن الخريطة الكروموزومية (الوراثية) للمعماريين تقريباً واحدة ” وهو ما أشعرني بالعجب والرثاء معاً.. ،إذا فالمشكلة تكمن أساساً في الجذور ..جذور المعماري الضاربة في تربة التعليم .يمكن القول بأن الخريطة الوراثية المعمارية تبدأ في التكون منذ اللحظة الأولى ينتظم فيها طالب العمارة في دراسته الجامعية، لايمكن بالطبع أن ننكر النشأة الأولى للطالب ودورها في اكتشافه أو تأثيرها على لما يراه جميلاً أو قبيحاً ..كاملاً أو ناقصاً ..متزناً أو مختلاً إلخ..غير أن الخريطة الوراثية ترتسم داخله فعلياً خلال السنين الأربع (أو الخمس ) التي يتم إعداده خلالها و” تسليحه” قبل النزول إلى ساحة العمل ..
ويتقلب الطالب على مدار سنين دراسته بين المواد النظرية والتطبيقية ويختلف إلى المدارس التصميمية والتنفيذية المتعددة لتتفتح لديه -من منطلق التنوع -أفاق جديدة ..إلا أن الطالب داخل هذه المنظومة لايلبث أن يصطدم بإشكاليات تعليمية وعملية ، تعكس أحياناً جدليات معاصرة في العمارة ، وأحياناً تعكس قصوراً مبيناً في منظومة التعليم المعماري ..وسوف نوجز بعض هذه الاشكاليات في رباعية تتألف من ثنائيات متضادة وأحيانا شبه متضادة ..
الثنائية الأولى الشكل.. أو المضمون
تتمسك بعض المدارس المعمارية بفكرة المضمون ..أي الاستجابة الفراغية شبه المثلى للبرنامج المعماري بينما يهتم البعض الآخر بالشكل .. التكوين الكتلي أو المظهرالخارجي للمبنى .ويجد الطالب نفسه حائراً كلما رأى تصميماً ينتمي لمدرسة مغايرة لما يعرفه وتربى عليه، وتزداد الحيرة عندما يباشر الطالب نفسه عملية التصميم المتأرجحة مابين إشكالية الوظيفة و التشكيل ، ثم أنه لايجد جواباً شافياً من أساتذته وماينبغي بالطبع لأن ” ذلك يتوقف على طبيعة المشروع” ..هكذا يُقال له دوماً !،وإذا كانت الإجابة كذلك فلم إذاً التمسك بإتجاه محدد طالما كلها وجهات نظر تحتمل الصواب مثلما تحتمل الخطأ ؟!ويستقبل ميدان العمل الطالب خريجاً فيرى العمارة المصرية الحديثة لاتزال أسيرة القولبة وعملية القص واللصق فلايتسطيع تصنيفها تصنيفاً وظيفياً أو شكلياً ،إلا أنه يستسلم في النهاية للآلة المعمارية المحتدمة كترس دوار ضمن بقية التروس ..من دون فكر أو تجديد !
الثنائية الثانية: المجهود الذهني ..أو البدني
ونعني بذلك عملية تقييم الطالب ،ماغايتها ؟ هل هي بصدد إعداد معماري ذي قدرات تحليلية ذهنية analytical أم له قدرة على احتمال لساعات طوال hard-worker ؟! الظن عندي أنها تسعى لبناء الطالب المتكامل غير أنه (الطالب) غالباً مايقع فريسة لعملية التقييم فتارة تنصرف هذه العملية إلى قدراته الذهنية فقط، وتارة تتجه إلى النظر في مجهوده البدني ومدى الانجاز المرتبط بالوقت..وفي النهاية يصطدم المعماري حديث التخريج بواقع عملي يولي إهتماماً فائقاً بالمجهود البدني داخل معادلة زمنية يتم تقييمه على أساسها Time Sheet. و لايحق غالباً للمهندس حديث التخرج المشاركة في صناعة القرار المعماري داخل الشركة أو المكتب ،بل يتم اعتباره مجرد منفذ أو مؤدي لمسودات المشاريع Drafting ، مع أن البديهي نظرياً أن المهندس حديث التخرج أكثر دراية ومواكبة لاتجاهات العمارة القديمة والمعاصرة .وبالتالي يجد المعماري الصغير نفسه على أعتاب طريق شاق حتى يصل إلى مرتبة صانع القرار ..وقتها يكون قد انفصل نهائياً عما تلقاه خلال فترة الدراسة .
الثنائية الثالثة : النظريات ..أوالتطبيقات
يدرك طالب العمارة منذ العام الدراسي الأول أنه يتحتم عليه دراسة مواد نظرية مثل تاريخ ونظريات العمارة أو إنسانيات العمارة إلى جانب المواد التطبيقية (العملية) ،ويدفعه إدراكه إلى نتيجة تتلخص في انفصال الدراسات التطبيقية عن الدراسات النظرية ،وتكون الصدمة مجددا بعد التخرج عندما يدرك الطالب انفصال الواقع نسبياً عن كل ماسبق دراسته عملياً أو تطبيقياً ! وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل عن مدى توافق المقررات النظرية مع المناهج التطبيقية من ناحية وكذا الموائمة بين مجالي الدراسة وساحة العمل من ناحية أخرى ..وكيف السبيل إلى تحقيقه؟ ولماذا يكرر بعض أستاذتنا الجملة الشهيرة “عندما تشتغلوا سوف تنسون كل الذي تعلمتموه داخل الجامعة”،فإذا كان الواقع منفصلاً عن الدراسة وفي كلاهما يشترك أستاذتنا –أساتذة الجامعات- في إنتاجه فما وجه المصلحة من بقاء الأوضاع دراسياً وعلمياً على ماهي عليه؟
الثنائية الرابعة : الغايات ..أو الوسائل
من المؤكد الغاية المثلى في التعليم المعماري هي تخريج مهندس لديه من القدرات التصميمية والتحليلية و ما يُنتفع به من علوم نظرية وحسابية إلخ..،كما ينبغي أن يتسلح المهندس بالوسائل والمهارات اللازمة في ساحة العمل ،على أن هذه المهارات تُقاس بمدى مواكبتها للعصر تقنياً ومن ثم فلاعجب أن تكون أغلب هذه المهارات رقمية Digital Skills في عصر الألفية الثالثة ،غير أن الواقع التعليمي في خريطتنا الوراثية لايزال منحازاً إلى المهارات اليدوية Manual Skills سواءاً عن طريق الرسومات- بدعوى تدعيم الحس المعماري – Sense أو عن طريق المجسمات- بدعوى تغذية القدرات الخيالية لدى الطالب ! صحيح أن وجود الحس المعماري مهم ولاغنى عنه بالنسبة للطالب إلا أن الانفصال عن المهارات الحديثة ولو نسبياً يضع الطالب في مأزق دراسي لاسيما إذا لم تفلح الدراسة في اكسابه الحس المطلوب ثم يقع في مأزق عملي إن لم يستطع هو أن يتسلح ذاتياً بالمهارات الرقمية التي سوف يتحدد عليها – فقط وللأسف- موقعه من سوق العمل !
هذا جانبٌ من إشكاليات خريطتنا التعليمية الوراثية ،لاشك أن من ورائها إشكاليالت أكثر جدلاً ..قد نتعرض لها إذا اتسع المجال ولعله من المناسب أن نقترح خطوطاً أساسية أو روقة عمل مبدئية علها تسهم في تغيير ملامح خريطتنا الوراثية للأفضل ..
[*]
أولاً : الاعتراف بحتمية التطور داخل منظومة التعليم المعماري من جانب القائمين على العملية التعليمية سواءاً من الجهات الرسمية المسئولة وكذا القائمين على المدارس المعمارية والأكاديمين.[*]
ثانياً: اعتبار الطالب شريكاً في العملية التعليمية وليس مجرد متلقي ،والحرص على عقد جلسات حوار مع الطلاب لاستطلاع أرائهم وطموحاتهم في تحسين واقعهم التعليمي ،ثم النظر بعين الجدية إلى تصوراتهم.[*]
ثالثاً : ضرورة عقد مؤتمرات خاصة بالتعليم المعماري فقط لمناقشة قضاياه ودراسة أحواله ،ولامانع من استقدام الخبراء الأجانب للإفادة من خبراتهم في المجال،والخروج بتوصيات من شأنها تسهم في تطوير المناهج والأساليب الدراسية.[*]
رابعاً: السعي لتشكيل هيئة خاصة بالتعليم المعماري مؤلفة من المعماريين والأكاديميين وممثلين طلابيين ،يكون على عاتقها التنسيق بين الجامعات والمدارس المعمارية للوقوف على الحالة التعليمية ،ثم إعداد تقرير سنوي مرفقاً برؤية مستقبلية أوحلول واقعية للمشكلات.[*]
خامساً: إعادة النظر فيما يتم نشره من أبحاث محلية وعالمية في التعليم المعماري ،وكذا الرسائل العلمية ،ومحاولة مناقشتها من منظور عملي ، ثم الربط بينها وبين الأبحاث الشبيهة في مجال التربية ،لاشك أنها سوف تلعب دوراً حاسماً في إيجاد الحلقة المفقودة في المسألة.[*]
سادساً: العمل على سد الفجوة الكائنة بين الدراسة وسوق العمل وذلك بخلق مبادرات تدريبية جادة تهدف إلى إفادة الطالب ودراسة أوضاعه..فتقوم بمزج القدرات التحصيلية لدى الطالب بالخبرات العملية خارج نطاق الجامعة ومن ثم ترصد حجم الفجوة بدقة ،في حين تقوم الجهة المنوط بها التطوير باقتراح الحلول وفقاً لدراسات وإحصائيات حقيقية.تلك ست نقاط قد تصلح كل منها لدراسة مفصلة وقد تصلح بعضها لتكوين ميثاق تعليمي جديد ينبع من رغبة حقيقية في تغيير واقعنا المعماري أو يصلح دستوراً للجامعات ومدارس العمارة في مصر ..
..فهل آن للقائمين على منظومة التعليم المعماري أن يدركوا أهمية تغيير ملامح هذه الخريطة بما يتناسب مع عقلية الطالب وامكانات الجيل أولاً ..ثم تقترب من متطلبات سوق العمل والمنافسة ثانياً ؟ ..سؤال يبحث لنفسه عن إجابة ..أو استجابة !