قراءة في ديوان ماء الياقوت

عندما يتمثل الشعر روعة الهمس ونقاء البوح ودقة التطلع عند الشاعر عبد القادرالحصني :p
بقلم الناقد علي الصيرفي
1 -
إنه لمن الصعب أن نقرأ ما كتبه الأديب عبد
القادر الحصني دون أن نتوقف مندهشين ومتوتري الأعصاب، فالرؤية لديه، شديدة
السلاسة والنعومة، حيث أنه يغرق في عبير الشعر، ورحيقه مبعثراً أوراق
همومه، في كل الاتجاهات ،. فالماضي عنده، يمتد بصمت ،والحاضر يجري في جدول
ناعم، يليق بالكلمة، التي اصطنعها الشاعر الحصني لقصائده ، فجاء ديوانه (
ماء الياقوت)حاملاً روعة الهمس والبوح، ودقة التطلع ، وسرابية المدى ،
ونقاوة الحلم فهو يتناثر، فوق أريج النوار معلناً تناسخه، عبر كل الفضاءات،
التي تراءت له، في غفوة شعرية، أيقظت حميم الشوق وأضرمت صوت الكلمة،
تيارات شديدة الهبوب في صحراء رسمتها كلمات القصيدة ، فالقلب ينهل
بالرطوبة، وديمومة الأسرار، والنفس تواقة للعمل، ضمن معايير الحب والنبل ،
فهو يرنو إلى المكان الذي أحبه ، فيذوب به شوقاً وحنيناً ، وتلك الجميلات
من الصبايا، اللواتي عُرفن بصوفية راقية، طرّزها الشاعر في قلبه وفي لباس
الصلاة ، فالحبيبة ليست بعيدة عن محطات الفيض، والتماهي مع النور القادم من
السماء، والنسمات المسائية وأحجار مدينته السوداء ، وتفور في قلبه تلك
العلامات الرمزية لشيفرات يفهم معناها ، ويعتمدها في قصائده، فالخمرة التي
تحمل طعم الرماد تخلق عنده الفراغ فيخرج من هذه الحالة بماء الوداد ويمارس
طقوس وحدته بالمفرد " والمفرد " ارتباط كبير بالمعتقد لدى الصوفيين .
حنين ، حنين
أنا مفرد وحنين
ومثلي النوافذ...هذا الحوار المحير
يعقد قوساً
على مستطيل الكلام
ويستدرج المطلقات إلى عتبة الظل
بينا يسيل المدى غامراً كل حيث
إلى موعد لا يحين ص(11) 2 -
فالحياة عنده لها مقدساتها وتراتيلها ،
فالنواقيس تردد لحناً مجهشاً بالرنين ، وعيون النساء الجميلات في مدينته سر
من الأسرار يؤنس وحدته ويبعد الغموض عن شطحاته ، فهو يعيش مر العتاب
ويتحمل تلك النشازات التي تصيب أصوات المغنين ، لكنه ينسى كل هذه المؤرقات
في مدينته (( حمص)) التي تغطيه برموش عينيها وطهر يديها وجمال زهورها ،
فحمص تلك التي أحبها يعجز الكلام عن وصفها وتتعتق في هذا الأزل القديم فهي
التسلسل الزمني عنده ، والفكرة والمشكلة خارج بوحه وقصيدته ، وقيامه بتلك
العلاقة الهيامية تعانقه وترحل به ، وهكذا فهو القائم بالتجربة ولا يهدف
بعد ذلك إلى تسليم ذاته مثقلاً بالقيود إلى وجود خارج عن نطاق حياته ، بل
هو يعمل على ملاقاة ذاته وإعادة تأليف وحدة أجزاء كيانه
3 -
إن القصيدة عند الحصني ترمي إلى تحضير
رونق الأحوال وقوة الإبداع والقبول بمبدأ تلازم الصورة البشرية والذهنية
لأن الصورة الذهنية إدراك للصورة المادية ، حيث يزداد الوضوح لتلك التخيلات
التي يشير إليها والتصورات الخفية التي تثيرها روحه الهائمة في كل مكان ،
فالشاعر الحصني يفهم معنى العالم على أنه يعني عالم الأشياء لذلك نراه يدفع
ببيئته إلى الأمام فلا يلبث أن يطرز قصيدته بالجمال المتحرك بتلك اللغة
التي ينسجها ، فجمال الدير الذي تهيم فيه الملائكة وتلك الراهبة التي تعقد
زنار الفجر ودفء شعاع الشمس الذي يلف العالم بضيائه وماء الحوض الساكن .
ولننظر ماذا بين الكلمات التي أدرجها الشاعر فورق التوت هو الحاضن لزغب
ملكي يدخل في عوالم الحلول والتحرق الجسدي وما يجري في ماء خليج يرسل دفقات
في كل الاتجاهات تسيل رقراقة .
في ماء الحوض الساكن
وعلى ورق التوت
هوم زغب ملكي فوق محارتها
واستيقظ ماء خليج دهري
فاض على أبهاء الملكوت ص(19)
4- يرمي الشاعر الحصني معرفة الكثير من
الأسرار التي أراد دخول متاهاتها فهو يدرك معنى الرموز وكثافتها فيحاول
استخدامها ليبعد نفسه عن البوح العلني للكثير من الآهات التي ملأت قلبه،
فالتفاصيل عتيقة على مر الزمان، والجرح عميق، وهنا تكمن صعوبة الدخول في
الرمز ،فهو ينشد نحو عقله الجمعي، ويغامر بكلمات أرادها فاعلة في بناء
الفعل الشعري، فاشتعال الحيرة وقمر الغربة الذي يراه في صديقه، ثم يرحل إلى
الينابيع ليراه الينبوع الأول، وهذا رمز يظهر ما أخفى الأديب وراء هذه
المنادمة، ويدلل على ذلك بالجدل الفاتن ، فطعام الجنة ليس" الزقوم " وفي
جهنم لا يوجد "السلسبيل"، فالسلسبيل لغة رمزية عميقة ، تدل على أن الشاعر
يدرك الكثير من معاني الرموز ثم يطلب الأمان بعد هذا الطرح المفتون
بالمعرفة للآخر، فنرى دخول الكلمات الدينية التي ألبسها الشاعر ثوباً
مغايراً لما جاءت لأجله، فهو يبدأ بالحب غريباً، وسيعود غريباً حسب قول
الرسول (ص):أتى الدين غريباً وسيعود غريباً
بدأ الحب غريباً وغريباً سيعود
ليت أني حورتني الأعين الحور
وقدتني القدود
ومثل الله درب هب من قلبي
وشدته النهايات إلى ما لا يعود
بعده الأبعد إلا نقطة
في سرها يطوى البعيد ص(28-29)
ولا يبالي الشاعر الحصني في الغوص عبر
بحار صوفية عميقة الأسرار فيرى ما يدور في السماء بفطرته ويرى راهبة تشتهي
الابن ناراً، إن كلمة تشتهي تنبع من أتون الرغبة الجامحة والشهوة فاللقاء
عند باب غرفتها هو لقاء ككل اللقاءات حيث تدور الأشياء وتنغمس النفس في
اللذات فتفض البكارات على نبع ياسمينة رائعة الجمال ، ثم يرى نفسه صورة
للإله لا يختلف عنه بشيء ، فالابن رمز عند الراهبة فينطلق هو كالابن ،
ليلوم ذلك الذي يورطه وهو السوي الأبدي إنها صراعات عنيفة وقوية تلامس جوهر
المعتقد الذي وضعه الشاعر نصب عينيه:
والفراشات زرقاء
منقوشة في الإهاب
على صدره الغض والكتفين
وفضت على ياسمينته نبعها البكر
شمساً من العشق تدمى
لماذا أنا الطفل دوماً
وأنت السوي الأبدي
تورطني في أرق القوارير ص(23-24)
0 لقد عرض الشاعر العلاقة بين هذين
المستويين من الضمير بطريقة مثيرة فهو يرى نفسه إلى جانب السر الغامض
للوجود وهذا ما يدفعنا لمراجعة رؤية القديس "توما الأكويني" وتصوف "مايستر
إكهارت" الذي قال إن من طبيعة الله ان يكون بلا طبيعة والإنسان خلق على
صورته ومن هذه النظرة الصوفية التي يتمثلها الشاعر الحصني يعمل على معرفة
ذاته أي معرفة الذات البشرية
5 -
يجد الشاعر نفسه في صميم شعريته مع خمرة
الحياة وألقها فيجعل الحياة تدور في أفلاك ربانية تعشق الغموض والتخاطب
بالإشارات فمن يمسك بهذه الخمرة نديم أو ذاهل و ربما خالق يكور الصلصال ثم
ينفخ فيه روحاً تتجاذبه طقوس يفهمها ويربطها بآياته البينات فهو يلجأ إلى
كلمات القرآن (( د نا فتدلّى )) ونراه يستمر في تفاعله مع القرآن الكريم
واعتماده على ألفاظه فيقول:
فرأى الله في المتاهة ناراً
في حنايا عليقة تتجلى
ورآه نوراً يحف بهياً هالة هالة بعذراء حبلى
لقد امتلأ الشاعر بالفيض العارم للروح
الصوفية الرافضة للكثير من المفاهيم والقيم فالله أبدله بالثيب – البكر
خمرة - كأن المرأة البكر خمرة تسكر العقل وتذهبه ولم ينس الشاعر علاقته
الحبيبة بالمرأة فيبوح لنا بعلاقته بها جسدياً وكيف يفعل ما تشتهي نفسه
معها من هصر وتوحد كما أنه لا يرحل بقصيدته إلى البعيد بل يرصد كل ما يدور
على الساحة من دمار وسلب وظلم فهو يرى النفط نقمة على قلوبنا ، فازددنا
تخلفاً رغم العولمة القائمة في عصر النفط إلا أن النفط عاد بنا إلى البداوة
، و نراه خائفاً من السلام القادم الذي يتخفى خلفه الغزاة، إنه يعرف أن
الشعب قادر على رد الغزاة مهما كانت قوتهم وهكذا أراد الشاعر الحصني ديوانه
غلالة من الشعر الرفيع الراقي التزم فيه رؤية الحال فأوشك أن يقلب الأمور
إلى عكوسها إلا أنه ما لبث أن أقفل الكهف المقيت ليفتح كل نوافذه نحو
الضياء .

» هل قراءة القرآن بالعين قراءة؟
» ديوان عنترة بن شداد
» حكم قراءة البسمله
» قراءة الافكار
» قراءة الصور الذروية ..