تَقوم اللغة على
اختصار المُحيط الدَّلالي في مجموعةٍ مِن العَلامات المُنتقاة بشكْل يَخدُم
الوظيفةَ التواصليَّة التي ارتضاها المُتكلِّم؛ ومِن ثمَّ كان فَهْمُ "
ميكانزم" انتقاءِ العَلامة اللُّغويَّة أمرًا ضروريًّا لنجاح عمليَّة التواصُل اللُّغويِّ.
واللغة كـ "
نظام"
تَتشكَّل مِن مَجموعاتٍ مِن الأنظمة المُتداخِلة، التي يَشتمِل كلُّ نِظام
منها على "ميكانزم" علاماتي مُعيَّن في الانتِقاء اللُّغويِّ.
واللغة كـ "
نَشاطٍ" تَعتمِد على المُثير والدَّافع - سياق لا لُغوي - الذي يَحثُّنا على الرَّغبة في
الإنجاز، فإذا تمَّ
الإدراك العلاماتي للسياق غير اللُّغويِّ، يبدأ المُتكلِّم في انتِقاء العَلامات اللغوية التي تُساعِده على الإنجاز.
فيَبدأ المُتكلِّم باستِشعار
الوظيفة اللغوية الأمِّ، التي ستُحقِّق أهدافَه داخِلَ نِظام
تَأطيريٍّ مُعيَّن
يَخدُم تلك الوظيفَة، ثمَّ يَبدأ في اختِبار العَلامة اللُّغوية مِن خلال
الموروث المُعجميِّ لديه بين أُطرٍ حمليَّة وحُدود مِن خِلال
قواعد تكوين المَحمولات "مُشتقَّة/ أصول"، وذلك كلُّه محكوم بارتباط الدالَّة المعجميَّة بواقِعها
السياقي، والذي ستقوم العلامة اللغوية بتوصيله للمُتلقِّي.
ثم تبدأ مرحلة أخرى أكثر تعقيدًا في الانتِقاء العلاماتي اللغوي؛ إذ تتداخَل الوظائف "
الدَّلالية والتداوليَّة والتركيبيَّة" في ثَنايا تَكوينِ القَضايا الصُّغرى المُكوِّنة للبِنْية الكُبرى للنصِّ، ثمَّ البحْث عن قواعدِ توسيع تلك القضايا؛ لتحقيق
التماسُك النصِّي والدَّلاليِّ للنصِّ، وفي أثناء ذلك كلِّه تَتعدَّد الوظائف اللُّغويَّة، التي تَرمي في آخِر الأمر لبَلوَرة الوظيفة الأمِّ التي ارْتضاها المُتكلِّم.
وفي المراحل السابقة كلِّها لا يُمكِن
تَخيُّلُ انعدام العلامة الصوتيَّة؛ بل تبقى قائمةً في التصوُّر ما دامتْ
العلامة اللُّغويَّة تَتشكَّل بها وتَحيا في حيِّزها، فهي موجودة بالقوة،
ولا تكون بالفِعْل إلا بعد تمام القضيَّة اللغويَّة على النَّحو السابِق؛
حتَّى يَخرُج الكلام مُحقِّقًا للتواصُل القائم في حدِّ ذاتِه على الفَهْم.
ولا تَكتمِل عمليَّة الانتِقاء العَلاماتي
للغة إلا بإتمام نفْسِ الدَّورة للمُتلقِّي، ولا يَعني ذلك أنَّ المتلقِّي
أثْناء استِقباله للعَلامات اللُّغوية يَكون سلبيًّا في الموقِف
الكَلاميِّ، على العكس تَمامًا؛ إذ يَستقرِئ المُتلقِّي السياقَ - غير
اللغويِّ واللغويَّ - ويتوقَّع للمتكلِّم، ويَتجاوَب مع
الوظيفة الانتباهيَّة للغة، وعندما يَستقِرُّ لدى المُتكلِّم نجاحُ التواصُل، وعندما تأخُذ
الدورة الانتقائيَّة دورَها للمتلقِّي، يَبدأ التواصُل اللغويُّ في دورة
انتقائيَّة جديدة، تَعتمِد بشكْل رئيس على
تبادُل الأدوار.
وما دام التأطير النصِّيُّ يَتحكَّم
بمؤشِّر الوظيفة اللُّغويَّة في التواصُل، فإنَّ ذلك يَستلزِم بالضَّرورة
وجودَ عُرفٍ ما للدخول في التواصُل، والخُروج منه، والانتِقال بين ثَناياه،
وهو يَعتمِد أيضًا على عُرفيَّة العَلامة اللغويَّة الدالَّة على
الاستِهلال والانتِقال والختام بين الجماعة اللغوية في التواصُل.
وفي ضوء ما سبق، أَطرح مسألةً علاماتيَّةً تتناوَلُ
مستويات الإبهام الدَّلالي في التلقِّي؛ إذ تقف العلامة عند عَتَبات مُتتالِيَة في أثناء الاستيعاب الدَّلالي للنصِّ ككُلٍّ، وأولى تلك العتَبات: (
المعجم)؛
فالكَلِمة خارج سياق النصِّ بالرغم مِن دَلالاتها المعجميَّة المُختلفة،
إلا أنَّها تَرتبِط بحالة علاماتية مُعيَّنة مِن بين هذه الدَّلالات، ولا
تَستقرُّ دَلالة الكلمة هذه إلا داخِلَ النصِّ، و(المعجم) كعتَبة أولى قد
تُبهَم دَلالتها بالنسبة للمتلقِّي؛ مما يؤدِّي لإحداث قصور في التراكُب
القَضَويِّ للنصِّ.
وثانيها: (التركيب)، وهو مَسرح القَرينة، وأساس النصِّ، ويَكون إبهامه على مِحوَر التَّوزيع للبِنيَة الجملية، ومثال ذلك بيت الفرزدق :
وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إلَّا مُمَلَّكًا أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ
|
وذلك الإبهام كذلك يؤدِّي لإحْداثِ قُصورٍ في التَّراكُبِ القَضويِّ للنصِّ.
وثالثها: (
الترميز)،
فإذا كانت اللغة نِظامٌ قائم على (العلامة / الرمز)، فإنَّ الجُنوح
للتَّكثيف الدَّلاليِّ لتلك (الرُّموز/ العَلامات) يُبهِم المُحتوى
القضويَّ المرْجُوَّ الانفتاحُ عليه مِن قِبَلِ المُتلقِّي.
ورابعها: (
الثقافة التناصية)،
فبالرغم مِن اتِّصال كثير مِن العتَبات الثلاث السابِقة بثَقافة المتلقِّي
وآليات تلقِّيه، إلا أنَّ تلك الثَّقافة تَظهَرُ بشكْلٍ جليٍّ في العتَبَة
الرَّابعة تلك؛ إذ يَستلزِم قراءةُ نصٍّ ما - بِلا مُبالَغة - هضْمًا
تامًّا للنُّصوص قاطِبة؛ فكلُّ نصٍّ يَتناصُّ على الأقل مع "عالَمِ" كاتِبه
جُملةً وتَفصيلاً.
إنَّ مستويات الإبهام الدَّلاليِّ على نحوٍ ممَّا سبَق تطرح أمامنا إشكالاً، وهو:
ما الحدُّ الفاصِل بين قِراءة النصِّ وفَوضى النصِّ؟ ويُمكِن تَناوُل الإشْكال السابِق مِن خِلال الإجابة عن السؤال التالي:
متى يَكون النصُّ؟ إن "إلقاء التحيَّة" في أثناء خروجِكَ مِن
مَنزلِك على جارك له وظيفة مباشِرة وفعلٌ إنجازيٌّ مباشِر، هو إعلان حالة
الودِّ بين الجارَين، كذلك يكون النصُّ إذا استطاع أن يُعبِّر عن وظيفته
وغايته الإنجازيَّة بشكْلٍ مُباشِر، وفي الوقت نفْسِه يُمكِن قراءةُ تلك
الوظيفة بأشكال مُختَلفة، بِدايَةً مِن الاستِخدام المُعجميِّ، حتَّى
النَّبْر والتنغيم المصاحِب لها، وهنا قد تَختلف قراءة التحيَّة، وإن تمَّ
الاتِّفاق حول وظيفَتِها الكُبرى وفِعلِها الإنجازيِّ المُباشِر، كذلك
النصُّ أيضًا؛ تَتعدَّد قراءاته في ضوءِ مُباشَرة وظيفتِه وفِعله
الإنجازيِّ لدى المُتلقِّي، ويَبقى اختِلاف القِراءة تابِعًا لثَقافة
المتلقِّي - بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ واسعة.
أحمد محمد عبدالمنعم عطية