الفوضى ما بين الإبداع والتصديع
بقلم عبد الله عبد الرحمن الصراف
كثيراً من الأحيان وخاصة في ليالي الصيف ما يجول آفاق أبصارنا أفق قد تلبد بالنداوة واللهب فنرى نجوماً مبعثرة نحاول فهم تراسيمها واختلاجتها، وعند ذهابنا إلى منطقة جبلية ما، نحاول فهم ما هي تلك الأخاديد والنتوءات التي في الجبال وهل أن توزيع تلك الأشجار التي على سفحها أو في غابة ما هي وفق نظام مجهول يتمركز في صلب مركز ما؟ هل أن تلك الأنهار التي تخترق مدننا قد رسمت معالمها وشطآنها بصنيعة حجارة قد عطلت، إذاً فلماذا نحاول إعادة صياغة تلك الطبيعة التي هي من صنع الباري عز وجل، ومن ثم نحاول إسقاط هندسة ذات تراسيم قاسية الأبعاد؟
قد يقول أحدكم إن تلك النجوم وتلك الجبال هي مرتبة وفق نظم هندسية دقيقة مجهولة السمة والكيفية، ولكن دعونا نلاحظ فروقاً بين تلك الفوضى الطبيعية التي باتت محكومة بنظام كوني أزلي وبين تلك العمائر التي باتت مملة في ضوء الهندسة المهذبة كما سيحلو تسميتها لدى الكثيرين.
قبل أن نأخذ أمثلة معمارية تدل على الفوضى وأنها أزلية منذ الخليقة، لابد لنا أن نتمعن في مغزى صرخة المولود للدنيا وهذا الضجيج العبثي الذي يصدره، لو نظرنا بتدبر لوجدنا بغرابة حركاته التي تدل على فوضويته مترامية النواحي، سنحاول سؤال أنفسنا هل يحاول إيصال صوته أم انه يحاول التخلص من أدران العالم التي سيلتاث بها فيما بعد، نظرة أخرى: ألم تروا إلى الغريق في الماء الذي يحاول التخبط في كل الاتجاهات للبحث عن القشة التي ستنقذه، وأوكد هنا على كلمة (تنقذه)، فإن عبثه الفوضوي في كل الاتجاهات هو الذي سيؤول إلى خلاصه، أم أنه مستقر; فلا شك أنه سيبقى يغرق ويسقط صريعاً لتتلقاه أحضان اليابسة، إن الرقود في مكان واحد دون حراك هو الذي جعلنا نصل إلى حالة تفيض بها عمارتنا بالملل والتقليد الذي في كثير من الأحيان سيكون أسوأ من النموذج المقتبس.
نعود ونقول إنه لو أخذنا مثلاً العمائر القديمة (الأفلاطونية بالذات) لاحظوا إلى الهرم مع علمنا أنه هندسي النشاءة، إلا أنه فوضوي البنية فلو أمعنا النظر إلى هذه الأهرامات مع تغيير المنظر البصري لنا فإننا سنشاهد الفوضوية الناتجة من جراء ترتيب حجارة هذه الأهرامات، أما في ديننا الإسلامي الحنيف، فلاحظوا إلى رمزنا الإسلامي الكعبة الشريفة، لاحظوا أنها تبدو تكعيبية التكوين ولكن قياساتها غير الدقيقة والتي تودي إلى أن يختلف تناسبات أضلاعها الأربعة هي التي أعطتها تلك الهيبة، وهذا هو فحوى فوضوي كوني مجهول لا تعلم كيفية أسبابه الشمولية، ولاحظوا الأغرب أن دوران الحجيج حول تلك البنية التكعيبة هي دائرية الصيغة، فلو صممنا اليوم أبنية حول شيء مكعب لم نستطيع ذهنياً أو منطقياً إلا وضع أبنية مكعبة التنظيم لإكمال هندسية ذلك المكعب... وهلم جرة من الأمثلة.
تعالوا معنا نركب على جناح السرعة والخيال ونتخيل حال كوكبنا وهو مخلوق هندسي الطبيعة، فجبال مثلثة وأنهار تتقاطع فيما بينها بتقاطعات شبكية، وسحب دائرية التشكيل ومخلوقات لها نهايات حادة الزوايا أو قائمة، وفواكه رمادية وبيضاء اللون، وأشجار ذات أوراق بمقاسات ثابتة (مكونة من شبكة هندسية قد كونتها)، فماذا سترى؟
لا ترى إلا مللاً رتيباً وأشكالاً مكررة وتصاوير جامدة، وكأن كل تلك الأشياء عبارة عن صيغة لمركب عضوي لا نرى فيه إلا كاربوناً وهيدروجيناً، فإذا مللت من ذلك فاعلم أن أبنيتنا اليوم ماهي إلا تلك الطبيعة الجامدة، فالله عز وجل خلق كل كائن بقدر معلوم لا زيادة أو نقصان فيه فهو بكماله عز وجل خلق ذلك الخلق وأبدع في تكوين نسبه الطبيعة، ولكن لم يكرر ولم يستنسخ أي مخلوقٍ عن الأخر، ولو كان هناك مخلوقاً مشابها لآخر فما هو الداعي من دراسة الهندسة الجينية وتبحر العلماء في موضوع (DNA)؟
إذا كانت الدنيا كذلك فلماذا نكرر النماذج التقليدية، دعونا نتهكم على التاريخ لإنتاجه من جديد وليس أن ندعي بنسيان التاريخ لإنتاج التاريخ كما افترضته الحداثة، سيقول بعضكم أن تلك الأقاويل هي سفسطة لغوية إنشائية، فإن كان ذاك فلماذا نتجه إلى السفسطة التاريخية المعمارية كذلك.
قد يقول أحدكم كلنا يكره العمارة الصندوقية وأن أبنيتنا اليوم (وأخص بالذكر في العراق) باتت متعددة الأشكال ولكن أي أشكال، أنها أيضاً قد ظلت في محور منطقي لا تحاول الخروج من بوتقته، فإننا قد كررنا تلك الصناديق مع بعض لتنتج عمارة الصناديق المتعددة، لاحظوا مشاريع زهاء حديد، أبنية ذات انسيابية طبيعية، كونكريت يذوب مع ما حوله انصهار للبنية العميقة للمبنى مع إدراكها للعلاقات التركيبية لتلك الأبنية، لا وجود لنظام يحكم تلك الأبنية، انعدام الشعور من لدى زها كما يبدو لي من أن هذا العالم ملتاث بأدران تلك الهندسة التصديعية، ولذا فإنها اليوم باتت فوضوية التكوين خلاقة لعمارة ترنو للطبيعة الساحرة والمحيطة بها، أليست زها حديد هي من رحم الأرض العراقية التي جثت على رباها حضارات عديدة امتازت بفنها وعمارتها، فهي تتحدث عن زيارتها لتلك المدن التاريخية وتأثرها منذ صغرها بتلك الحضارات ولكن لم تعمل على إعادتها وضخها إلى موانئ الرجعية والتكرار.
خذوا أيضاً أعمال سانتيكو كالاترافا، ولاحظوا استثمار التكتونيك البنائي وإظهار الهيكل الإنشائي في المبنى والتنوع البصري الناتج من جراء تلك الديناميكية الإنشائية.
إن فكرة أن هذا النوع من الأبنية يجب أن يأخذ طابع ما، كالمشفى أو المدرسة أو المباني الإدارية (typology) في نظري ما هو إلا تصديع لعصرنا الحالي وضياع بات بنا إلى أن نكرر تلك الأبنية، وهذه العملية أدت إلى عدم تطوير العقل البشري وضياع طاقاتنا المعمارية وأفكارنا واستسلام لسطوة الإنشائيين والمقاولين وجعل شاغل المبنى يسأم من حياته المهنية، ولذا فانه يحاول الخروج منها والهروب دون تقديم واجبه المهني، وهذا هو الأمر الذي أدى إلى كتابة الكثير من الشعراء والمفكرين عن السأم الذي جرى في هذا العالم وظهور مسرحيات وروايات تتحدث عن غابات الكونكريت وعن ضوضاء العالم وفوضويته اللاخلاقة، إضافة إلى تلك الحروب التي جعلتنا نكرر تلك النماذج رغبة منا في إسراع عملية الإعمار.
لماذا لا نأخذ التجربة الأوربية بعد الحرب العالمية الثانية، نعم فلقد كررت تلك النماذج وعندما وصلت إلى مرحلة الكفاف وملت وسئمت انتقلت إلى تحسين عمارتها وإعادة تهذيبها والعمل على جعلها فوضى بما يلائم العصر، لذا فإن اتجاهنا نحو الفوضوية وإعادة خلقها وترتيبها بما يلائمنا كبشر هي التي ستكون نقطة إطلاقنا لواقع معماري جميل سترزح تحته عقولنا البشرية، إن دعوتي إلى الفوضوية ليست دعوة دادائية كالتي أطلقها ترستان تزارا، لأن تلك الدعوة قد أشركت بالله وألحدت به، وإنما دعوتي هنا هي دعوة فكرية قائمة على التدبر بخلق الله عز وجل والإيمان به قولاً وفعلاً، فليست الفوضوية هي التخريب أو الدمار كما سيظن منكم البعض، بل هي استغلال الطبيعة والإسهام معها في إكمال معنى الحياة ومعنى الخلافة في الأرض، إن الفوضى الخلاقة هي ناتجة طبيعية لمقومات عصرنا وتراسيم محياه، لابد لمعماري اليوم أن يتغلبوا على الصعوبات التي تواجههم، لابد لنا من التخلص من شخصية الآلة وتقيسها لأن العمارة ليست مكعبات من الميكانو، بل هي روح قابعة تحت تلك القشور الخرسانية، لابد اليوم من العمل على كسر حواجز الممانعة التي كانت تعيق أعمالنا المعمارية، فالمعمار في نظري هو ذلك النور الذي يشع بأفكاره للناس.
أخيراً أقول إن كان صوتي قد تبدد في فضائكم الرحب ولم يلقَ صدىً له، فاعلموا أن هضاب عقولكم قد باتت قفرة الأفكار، وأني لأدعو معماريي الحاضر إلى النهوض بحالنا على كافة المستويات الفكرية والتطبيقية، وإن دعوتي هذه لا تلغي أبداً أي من التيارات والاتجاهات الفكرية الأخرى، وإنما هي تدعو إلى نقاشات جدلية توصلنا إلى بر الأمان، فلربما يشوب في ذهني بعض من الأخطاء التي ستنجلي فيما بعد، وإن رأيي هذا لربما الخطأ، ولذا سأترك الباب مفتوحاً على مصراعيه، وقد قال ربي عز وجل تأكيداً على ذلك ((تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون)).
منقول للفااائدة