الوتيرة الواحدة بين البيروني وهاتون
علم الأرض ( الجيولوجيا ) أحدَ العلوم الطبيعية ، التي تتناول دراسة الأرض ونشأتها، وتاريخ تطورها ، ومحتوياتها ، من مكونات طبيعية ، ومظاهر ،وتراكيب مختلفة ، وحياة قديمة ، عبر العصور والأزمنة المختلفة .
يعد تاريخ نشأة علم الأرض على يد المختصين الغربيين علمًا حديثاً . فقد نشأ أواخر القرن الثامن عشر ، وأوائل القرن التاسع عشر ميلادي على يد علماء أواسط عصر النهضة الأوربية، ويعد جيمس هاتون ( Hutton 1797-1726 ) في القرن الثامن عشر الميلادي هو مؤسس علم الجيولوجيا الحديث ، حيث إنه وضع أسس الجيولوجيا العلمية في كتاب ( نظرية الأرض ) ، مستنداً في ذلك على ما يبدو إلى الفكر الإسلامي ، ولكن دون الإشارة لذلك ، وهذه النقطة - على وجه التحديد - بحاجة لمزيد من الدراسة ؛ لتوضيح الطريق الذي سار فيه التراث الجيولوجي العربي بدقة وصولاً إلى هاتون !
تاريخ علم الأرض - حسب رأينا- هو بداية القرن التاسع ، وحتى الحادي عشر الميلادي على يد علماء ورواد عصر أوج ازدهار الحضارة الإسلامية ، وبكل فخر يمكننا القول : إنَّ ابن سيناء (980-1038م) هو المؤسس الرئيس للجيولوجيا عند العــرب ( في هذا الوقت من العصور الوسطى كانت أوربا ترتع تحت مظلة الإقطاعية في العصور المظلمة ، ومحاكم التفتيش التي عزلتها عن أي مد حضاري وثقافي) . ولقد تبين أن الكثير من المفاهيم الأساسية الحديثة لهذا العلم بالتحديد - ولكثير من العلوم الأخرى - قد طرحت في هذا العصر ، وهذا ثابت في المخطوطات العربية والتي انتقلت في فترات لاحقة إلى المكتبات والمهتمين في أوربا في وقت تزامن مع ضعف الدولة الإسلامية .
وعن موضوع مبدأ الوتيرة الواحده يقول الكاتب (Tarbuck lutgens 1984) :
" غالباً ما يعد آخر القرن الثامن عشر نقطة البداية لعلم الجيولوجيا الحديثة ؛ حيث إنه خلال هذه الفترة وضع العالم الاسكتلندي جيمس هاتون مبدأ عرف فيما بعد بنظرية الانتظام. والانتظام أو الوتيرة الواحدة مبدأ أساسي في الجيولوجيا الحديثة ، وهو يعني ببساطة [ أن القوانين الطبيعية والكيميائية والحياتية السائدة في الحاضر هي نفسها التي كانت سائدة في الماضي، وهذا يعني أن القوى والأساليب التي نراها اليوم تغير شكل كوكبنا قد سادت بالطريقة نفسها في الماضي]. ومن هذا المنطلق لكي نفهم الصخور القديمة لابد من دراسة العمليات السائدة اليوم بالإضافة إلى نتائجها، ولقد عبر العلماء حديثاً عن هذه الفكرة بقولهم:
" إن الحاضر هو مفـتاح للماضي " (The Present is the Key to the Past ) .
وبالعودة إلى ما يزيد عن ثمانية قرون مضت من زمن هاتون نجد أن العلامة والمفكر الرائد البيروني وفي كتابه "تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن" المؤلف بتاريخ 1026 م قد كتب ونظم هذا القانون بلغة عربية فصيحة وبليغة ، وبمنهج علمي صحيح ودقيق ، عجز من قَْبَلَه وبعْدَه أن يستبصروا ما أبصره هذا الرجل .
وأورد هنا مقتطفات متفرقة ومختصرة ، وذلك لطول النص لما يفيد عن قانون الانتظام حيث يقول شارحاً عن الأرض : "وأن توصلنا بالدلائل العقلية والقياسات المنطقية الصحيحة إلى معرفة حدث العالم ... ولا نعلم من أحوالها ( الأرض ) إلا ما نشاهد من الآثار التي تحتاج في حصولها على مدد طويلة كالجبال الشامخة المتركبة من الرضراض المؤتلفة بالطين والرمل المتحجرين ، فإن من تأمل الأمر من وجهة علم أن الرضراض والحصى هي حجارة تنكسر من الجبال بالانصداع أو الانهدام ، ثم يكثر عليها جرى الماء وهبوب الرياح ويدوم احتكاكها فتبلى ( تتفتت ) ، وأن الفتات التي تتميز عنها هي الرمال ثم التراب، وأن ذلك الرضراض لما اجتمع في مسايل الأدوية حتى انسكبت بها وتخللها الرمال والتراب فانعجنت بها واندفنت فيها وعلتها السيول فصارت في القرار والعمق ، بعد أن كانت على وجه الأرض ، وتحجرت بالبرد لأن تحجر أكثر الجبال في الأعماق بالبرد "
في هذا النص العبقري نجد البيروني يتكلم عن عمليات الحثّ والتعرية والترسيب بلغة قديمة وهو يتفق مع ابن سيناء في النظرية نفسها ، وهما- بالتالي - سبقا العلم الحديث في الإشارة لهذا الموضوع . ولو تمعنا في نص البيروني السابق عن الأرض خصوصاً في قوله عن الأرض : " لا نعلم من أحوال الأرض إلا ما نشاهد من الآثار التي تحتاج في حصولها إلى مدد طويلة " .
وبإعادة صياغة النص بشكل آخر نجده يقول :
إن تحليلاتنا لما نشاهده الآن على سطح الأرض ( الحاضر) مبني على الآثار التي تحتاج في حصولها على مدد طويلة ( الماضي ) ، وهذا يظهر جلياً من نص المخطوطة لأي قارئ ، وبذلك فإن هذا النص هو صياغة أخرى للنص الحديث لمبدأ الانتظام والذي هو الحاضر مفتاح الماضي .
وليس هذا فقط بل هناك نقاط أخرى تطرق لها البيروني في الكتاب نفسه تعدّ ركائز أساسية لعلوم الأرض الحديثة وهي :-
1 - إشارته إلى ما نسميه الآن فرضية انجراف القارات ، والتي تعزى إلى عالم الأرصاد والجيوفيزيائي الألماني الفرد ﭭجنر .
2- تكلم البيروني عن أصل تكون الأحافير وبرهن أن البحر كان يغطي بادية العرب في العصور القديمة ، ودليله وجود الأحافير البحرية في الصخور والتي شاهد مثلها على ساحل بحر الخزر (قزوين) .
وفي الختام ... إن هذا ليس إلا القليل ، وإنَّ بطون الكتب تحوي الكثير من الأفكار والإسهامات ، وهناك مزيدٌ من الأسماء ، فمازال عند ابن سيناء ، والمسعودى ، والكرخي وإخوان الصفا وغيرهم الكثير ليقولوه لكم .