من
العوائق المنهجية التي أصبحت تطرح؛ في سياق التحولات التي يعرفها المجال
القروي بالمغرب؛ إعادة النظر في المصطلحات الثلاث: البادية، القرية، الريف.
إن القول بأن البـداوة هي: " الحياة في البادية و يغلب عليها طابع
التنقل و الترحال" ، كما أن القول بأن الريف هو:" البيئة التي يعيش فيها
الفلاحون و يمارسون فيها أنشطتهم" ، تعريفان لا تؤيدهما الوقائع المعاشة في
كثير من المجالات الريفية المغربية، والتي أصبح سكانها يعرفون استقرارا
رسميا ، يشكل المنزل مركز تحركاتهم .كما أنها مجالات لم تعد تأوي الفلاحين
فقط ، وإنما تأوي نشيطين غير فلاحيين تختلف مصادر عيشهم. فضلا على أنه لا
يعقل أن تتوحد اختصاصات كل الفئات الإجتماعية القروية في نشاط واحد؛ و لو
في إطارالإقتصاد التقليدي المغلق .
تبدو المصطلحات الثلاث(البادية،
القرية، الريف) مترادفة في القواميس الفرنسية؛ لكنها ليست كذلك. مما يدل
على أن اللغة الفرنسية يوجد فيها من تعميم المفاهيم ما لم يوجد في اللغة
العربية: فمفهوم Rural يعني الريفي أو القروي ، وهو ما تعنيه campagnard .
ومفهوم Paysan تعني القروي كما تعني الفلاح ، وأيضا مفهوم campagne تعني الريف والقرية معا كما تعني البادية أيضا .
كل
هذه التعاريف جعلت الريف والقرية والبادية مفاهيم مترادفة، رغم محاولة
بعضها اللجوء إلى ضبط تعريف أكثر دقة فحصرمعنى الريف فيRural . كما حصر
بعضها الآخر مفهوم campagne في معنيين اثنين:أحدهما شامل، يعني كل ما هو
ليس بمدينة والآخر يعني الشساعة .
أما القواميس العربية فتُعرِّف هذه
المصطلحات تعريفا أكثر دقة؛ إذ تعتبرالبادية: فضاء واسع فيه المرعى والماء .
والريف: أرض فيها زرع وخصب . والقرية: مكان اتصلت فيه الأبنية واتخذ
قرارا، وقد يعني المدينة أيضا .
يتضح أن مفهوم الريف يجزم الوصف بأنه
الأرض الخصبة والمنعمة بالخيرات. فهل المجال الريفي المغربي كله كذلك؟
بينما مفهوم البادية مفهوم شامل يعني الفضاء الواسع الذي فيه المرعى
والماء، دون الجزم؛ هل هذا المرعى خصب أم لا؟ هل هذا الماء قليل أم كثير؟
وهذا هو الواقع الحقيقي لكل مجال جغرافي.
لذلك يصح اعتبار أن البادية
تشمل الريف بفعالياته الفلاحية وغير الفلاحية، كما تشمل القرى أي السكن.
بمعنى أن الريف جزء من البادية، وأن القرية هي سكن البادية؛ سواء في حالة
الإستقرار أو الترحال.
كما تطرح عوائق منهجية أخرى؛ تتلخص في تنوع
المناهج التي تساهم في بناء الدراسة الجغرافية، لأن" الجغرافيا علم يعتمد
على معرفة مناهج عدد غير قليل من العلوم ونتائجها من جهة، وعلى أنها علم
يهتم بدراسة علاقات التفاعل بين معطيات جد متغايرة ومتباينة من جهة أخرى " .
فضلا
عن تنوع مناهج العلوم التي تستعين بها الجغرافيا وتحاول أن توحد بينها،
وهو ما نفاه P.George بقوله " ولا يمكن أن تكون هذه الوحدة منهجية، لأن
البحث الجغرافي يستعين تدريجيا أو دفعة واحدة بطرائق كل علم من العلوم التي
يطلب منها العون من أجل معرفة تحليلية للمعطيات " .
لكن الذي يجب
التركيز عليه، هو أن الإستعانة بطرائق هذه العلوم، والجمع والتأليف بين هذه
التخصصات، لا يعني دوما إيجاد الحلول الناجعة لخدمة القضايا البشرية
اليومية. يجب الإعتراف بأن اختلاف وتناقض المناهج وليد تناقض الإيديولوجيات
المرتبطة بتنوع أهواء المنظرين ؛ بمعنى أن المنهج في العلوم الإنسانية
مرتبط بالمرجعية الفلسفية العقائدية لكل باحث، وهو ما اعـترف بـه P.Georrge
في معرض تساؤله عن إمكانية تحرر البحث العلمي من أي تبن عقائدي حيث قال: "
بالطبع إن القضية في النهاية هي قضية عقائدية أو بالأحرى قضية تبشير،
والجغرافي يرغب في أن يكون نافعا، فهو يشعر بدوره الإنساني، ويشعر في الآن
عينه برغبة للإشتراك في السلطة ودورُه يبرر رغبته " .
لذلك فإن الإحاطة
بالظاهرة البشرية أمر صعب؛ باعتبارها تتألف من مكونات مرئية وأخرى غير
مرئية . " إن نظرية العلوم الإجتماعية التي تتضمنها المناهج الدراسية
الحديثة نظرية مغلوطة وناقصة وقائمة على المفهوم المادي الذي لايؤمن
بالأديان المنزلة ولا بالقيم الأخلاقية المرتبطة بالدين" . فكيف نسعى من
هذه العلوم أن تعالج مشاكل مجتمعنا وهي تعتمد على مفاهيم تنا قض مرجعيته؟
لذلك
يقول محمد بلفقيه بأن " قضية الوجود الإنساني ضاعت في متاهات الفلسفة،
وضلال الإيديولوجيات " ، ولعل هذه المتاهات هي ما جعلت الفيلسوف الفرنسي
ليفي ستروس "يرفض الفلسفة ويعاديها، بل ويهجرها، وأنها في نظره لا تخدم
معرفتنا بالإنسان في شيء، وأنها سبب تخـلف العلوم الإنسانية عن اللحاق بركب
باقي العلوم الأخرى التي سلكت سبيل الدقة واليقين " .
"وعليه، فلا
يجوز التمادي في إغفال أهمية الفلسفات والإيديولوجيات في تكوين الفكر
الجغرافي المعاصر، وتحديد مساره، كما هو الحال بالنسبة لكافة العلوم " .
علينا
أن نعلم أن "هذه المفاهيم التي أوردتها الفلسفة المادية وأقامت عليها
العلوم الإجتماعية؛ والتي تقدم لشبابنا وأبنائنا في مناهج دراسية وثقافية؛
وكتب ومؤلفات بوصفها علوما، هي في الحقيقة ليست إلا نظريات قدمها عقل بشري،
وهي في نفس الوقت فروض قابلة للخطإ والصواب، وهي ثالثا بمثابة ردود أفعال
في بيئات وعصور مختلفة، ترتبط معها بأوضاعها، ومن تم فهي لاتصلح لأن تكون
علوما عالمية ولا أن تكون قوانين علمية صحيحة صالحة للتطبيق على مستوى
الأمم الأخرى والشعوب خاصة الأمة الإسلامية " ........
عوائق ميدانية تتعلق بالباحث
يبقى
من غير المؤكد الجزم بأن اطلاع أي باحث على تجارب من سبقه كاف بأن يجعل
منه باحثا محنكا؛ لأن المسألة يمكن تشبيهها بمن حفظ حواره التمثيلي دون أن
يلم بحركات وسكنات دوره أثناء التمثيل، بل وحتى ابتساماته وامتـعاضاته.
فإذا كان من السهل أن يصنف المتتبع لمسلسل تمثيلي بين الممثل المقتدر
وغيره، فإن المستجوَب في الميدان لا يقل إدراكا عن ذلك. والخطير أن إدراكه
هذا يجعل أجوبته تهكمية؛ تعبيرا عن استكشاف ضعف الباحث، أو غرابته عن
الميدان؛ من خلال "طريقة تعامل الباحث واللغة التي يستعملها وهندامه، إما
الفخم أو الرث وحتى لون ورقه" . كل ذلك يشوب العلاقة بحيطة وحذر يؤثران عن
معلومات الإستمارة، وبالتالي على القيمة العلمية للبحث الجغرافي؛
ما
زال بعض ساكنة المجال الريفي المغربي مقتنعون، بفكرة مفادها أن(لَمْدِيني)
أي الحضري، وكذلك(القَارِي) وهنا هو الباحث ، لا يفهم للحياة القروية
حقيقة؛ أي أنه غير ممارس لشؤونها وهمومها. لذلك فإن القروي يحكم على
تساؤلات الباحث بأنها مؤكدة لهذه الفكرة.
وهنا يطرح السؤال: إذا كان هذا
صحيحا؛ كيف توصل أجانب(فرنسيون وغيرهم) إلى القيام بأبحاث اعتبرت رائدة؛
وهم أغرب من(لَمْدِيني) أو(القاري)؟
الجواب مرتبط بفكرة أخرى يحتـفظ بها
القروي اتجاه الأجنبي؛ فكرة غرسها الأجنبي نفسه من خلال معاملاته
المضبوطة، وجديته الملحوظة، وكفاءاته المتنوعة، ومساعداته المتكررة، سواء
أثناء الإستعمار أو بعده. فكانت رؤية القروي اتجاه الأجنبي معززة بتلك
الخصوصيات.
يجب التأكيد على أن أغلب هذه العوائق تخف؛ شريطة انتماء
الباحث إلى منطقة بحثه، واندماجه الوثيق بعلاقات طيبة مع مختلف الفئات
والمستويات الاجتماعية، وتيقظه لاستنباط مختلف الدلالات؛ المرئية وغير
المرئية؛ المكونة للظاهرة القروية.
عوائق ميدانية تتعلق باختيار الوحدات المجالية
يعتمد في البحث الميداني على الخرائط الطبوغرافية بشكل كبير، وعلى لائحة الأرقام العشوائية باتخاذ الخطوات التالية:
- تقطيع الخريطة إلى وحدات مجالية تمثل كل وحدة 1 أو 2سنتمترات، حسب مقياس الخريطة.
- ترقيم هذه الوحدات المجالية تراتبيا من 1 إلى آخر وحدة.
- يمثل آخر رقم أساس العينة.
- ضبط عدد الأرقام العشوائية المتواجدة باللائحة والتي تنحصر بين الأرقام التراتبية.
- إبراز هذه الوحدات المجالية على الخريطة الطبوغرافية بتلوين مربعاتها.
- الحصول على عدد معين من الوحدات المجالية.
هذا
الإختيار العشوائي للوحدات المجالية المدروسة، ماهو إلا أسلوب يعوض
استحالة قيام الباحث بمسح شامل للميدان. إلا أن الإختيار العشوائي لهذه
الوحدات المجالية؛ قد يفرز توزيعا متكدسا في منطقة دون أخرى. مما يحتم
التدحل بإضافة وحدات مجالية؛ يعتمد في اختيارها على أهم التباينات
الجغرافية بمجال الدراسة؛ وخاصة الموقع من التجمعات السكنية ومن الطرق،
كعنصرين يتحكمان إلى حد بعيد في تنظيم المجال القروي. وبهذا التدخل تُتجاوز
هفوات التوزيع العشوائي للعـينات الميدانية.
- القيام باستطلاع ميداني
أولي لكل الوحدات المجالية، قصد ضبط خصوصياتها كمؤشرات للتمييز فيما بينها،
هل تمثل دوارا أم ضيعة أم مرعى، الخ.
- ضبط مختلف التباينات المتواجدة داخل كل وحدة مجالية.
- الحصول على عدد أسر كل وحدة مجالية اعتمادا على التحري الميداني.
- الحصول على معدلات ترتبط بالعدد الإجمالي لأسر كل وحدة.
- الحصول على عدد من الأسر موزعة على كل الوحدات المجالية المدروسة.
عوائق ميدانية تتعلق بالمستجوَب
كلما
اقتنع الباحث بتطبيق شعار(تعاش الجغرافيا أكثر مما تقرأ)، إلا وخفت
العوائق الميدانية المتعلقة بالمستجوب؛ لسبب رئيس وهو أن الإستمارة، كوسيلة
للتواصل مع الميدان، غير كافية للعوائق العديدة التي تواجهها.
يجب بدء
الإستمارة بأسئلة عامة لايتردد أحد عن التصريح بها؛ كالتعريف بالأسرة
والتمييز بين الحالات المدنية لأفرادها، حسب موضوع البحث. وترك الأسئلة
الحرجة في الأخير. لأن القروي يتحرج من طرح بعض الأسئلة؛ وخاصة المرتبطة
بثلاثة قضايا:
تحرج المستجوب من طرح الأسئلة المرتبطة بالممتلكات
يتطلب طرح الأسئلة المرتبطة بالممتلكات نوعا من الكياسة واللباقة؛لأنها أسئلة يعترضها تخوفان عالقان بدهن القروي وهما:
- التخوف من السلطة " إذ كثيرا ما يعتبر الباحث في رأي عموم المستجوبين مأمورا
للسلطة،
أو مراقبا ماليا أو شيئا من هذا القبيل، أي إنسانا يجب التعامل معه
بالحيطة والحذر، وهو موقف يمكن استيعابه باستحضار العلاقات التي كانت تربط
في الماضي القبائل بالمخزن" ، كما أنه موقف يجد تبريره في الحاضر أيضا من
خلال الضرائب المعروفة وغير المعروفة.
- التخوف من العين البشرية: وهو من عقائد المسلمين، إذ يؤمنون بأن نظرة الحاسد مضرة للممتلكات والأولاد والصحة وغيرها.
ولتجاوز هذين التخوفين وغيرهما، لابد من الإعتماد على أمرين متكاملين، بهدف تفـادي الكذب والتخفيف من تشويه الحقائق:
- ضرورة المعرفة المسبقة للميدان؛ إذ لايتم التعرف على حقيقة الأمور إلا بمعايشتها.
-
طرح أسئلة مفاجئة تتطلب نوعا من الإجتهاد الشخصي: فالسؤال عن وجود الماشية
أو انعدامها مثلا، يتطلب في حالة النفي، طرح أسئلة تحقيقية بعدما يكون
المستجوب قد نسي؛ كأن يُسأل أثناء المعلومات حول المسكن عن المساحة التي
يشغلها الإسطبل(الكوري أو الزريبة). أو يُسأل عن مساكل تسويق الحليب، دون
أن يُنبه هل الإسطبل موجود أم غير موجود؟أو هل الحليب ذاتي أم تسويقي؟ وفي
حالة ما إذا انتبه لنفيه الأول، يبادر الباحث بالإعلان عن سهوه. لكن يشترط
لإنجاح هذا السهو المتـعمد؛ إظهار الجدية والتواضع والإنهماك بكثرة
المعلومات، حتى يكسب احترام وتعاطف المستجوَب.
تحرج المستجوب من طرح الأسئلة المرتبطة بالمرأة
الحديث
عن المرأة القروية، يفرض الحديث عن التغيرات الجذرية التي غزت البنية
الأسرية القروية بالمغرب. تغيرات أرغمت بعض أرباب الأسر على التساهل بشأن
مساهمة المرأة في تشكيل قوة العمل الضرورية لضمان القوت اليومي، أو تحسين
المستوى المعيشي للأسر. لكن البعض الآخر؛ ما زال يرى في عمل المرأة خارج
بيتها، أمرا مشينا و مثيرا لكثير من الجدل، و من شأنه أن يعتبرها و ضيعة
أخلاقيا، منبوذة اجتماعيا.
والواقع أن هذه التغيرات ترتبط بالأزمة
الإقتصادية التي اجتاحت البادية المغربية، منذ أواخر السبعينات، انعكست
مباشرة على الميدان الإجتماعي؛ إذ أن ضعف الدخل الفردي أرغم الأب أو الزوج
أو الأخ على التساهل بشأن عمل المرأة، كما أرغم الشباب على العزوف عن
الزواج، مما عرض الفتيات للبوار المنزلي، وأقتحمن ميدان العمل، عساه يعوض
فقر المحارم و انعدام الزوج.
وعلى كل حال، يجب على الباحث أخذ الحيطة
والحذرأثناء تعامله مع موضوع المرأة القروية؛ ومن الأفضل أن يؤجله إلى
الختام؛ وذلك لما يثيره موضوعها، عند البعض، من غَيْرة، وعدم إدراك جيد
لهدف السؤال، مما يؤثر سلبا على مزاج المستجوَب، وبالتالي يؤثر في معلومات
الإستمارة.
تحرج المستجوب من طرح الأسئلة حول الأنشطة الخفية أوالمتسترة
أقصد
بالأنشطة الخفية أو المتسترة ترويج المخدرات والبغاء والتهريب واستخراج
الكنوز والسرقة والقمار وغيرها، وهي أنشطة موجودة وجودا سريا؛ باعتبارها
محرمة شرعا، ممنوعة قانونا، مرفوضة عرفا.
إن اكتشاف هذه الأنواع من
الأنشطة لن يتم بواسطة سؤال معين من أسئلة الإستمارة؛ لما يثيره من حرج.
لذلك يعتمد في ضبطها على معايير أخرى تنبني على الملاحظة الميدانية المعززة
بالمعايشة المباشرة أو غير المباشرة. وفيما يلي اقتراح يساعد على ضبط بعض
هذه الأنشطة:
- عدم إفصاح المستجوب عن نشاط معين أو مورد معين.
- ضبط مستوى التواصل أثناء الإستجواب.
- ملاحظة السن والمظهر الخارجي وبعض الأخلاقيات أثناء الإستجواب.
- وجهة نظر المجتمع بأسئلة غير مباشرة.
- غياب رب الأسرة إما مؤقتا أو نهائيا بالنسبة للإناث.
وبذلك يمكن ضبط بعض الأنشطة والممارسات التي ينذر التصريح بها.