**عمر بن أبي ربيعة
نسب عمر وعشيرته وأهله
هو عمر بن أبي ربيعة المغيرة , ويغلب عليه أن ينسب إلى جده . فيقال ابن أبي
ربيعة , وكنيته المشهورة أبو الخطاب , وهو ينحدر من عشيرة مهمة في مكة ,
وهي عشيرة بني مخزوم , والتي كانت أحد البطون العشرة التي تؤلف قريش البطاح
, وكان صوتها مسموعاً بين هذه البطون وفي مجلس شيوخها .
وما زال نجم المخزوميين يصعد أواخر العصر الجاهلي حتى أصبحت لهم شهرة مدوية
في الجزيرة العربية , وخاصة هذا الفرع الذي نجم منه عمر, وكان آباؤه
وأعمامه يعدون من سادة قريش الأولين , ومنهم هشام بن المغيرة والوليد بن
المغيرة , وجده الذي كان بطلاً من أبطال قريش .
وكما تقدم المخزوميون بالشجاعة تقدموا أيضاً بالكرم وبذل المال , فقد كانوا
من تجار مكة الميسورين .وفي هذه الأسرة يلمع اسم عبد الله بن أبي ربيعة ,
وكان تاجراً موسراً ,وكانت مكة تسميه "العدل" لأنها كانت تكسوا الكعبة في
الجاهلية بأجمعها من أموالها سنة ,ويكسوها هو من ماله سنة , فأرادوا أنه
وحده عدل لهم جميعاً , وكان اسمه بحيراً , فلما أسلم عام الفتح سماه رسول
الله صلى الله عليه وسلم عبد الله . ويقول أبو الفرج : إنه كان لعبد الله
عبيد من الحبشة يتصرفون في جميع المهن , وكان عددهم كثير , وعرض على رسول
الله أن يستخدمهم , ويستعين بهم , حين خرج إلى حنين , فأبى .
واستعمله الرسول صلى الله عليه وسلم على الجند ومخاليفها في اليمن , فلم
يزل عاملاً عليها حتى قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه, واستعمله عثمان بن
عفان رضي الله عنه أيضاً , وما زال والياً حتى توفي في أثناء حصاره عام
خمسة وثلاثين .
حياة عمر وأخلاقه وصفاته:
نبت عمر في أسرة نبيلة , ويقال أنه ولد في العام الذي قتل فيه عمر بن
الخطاب عام 23هـ للهجرة في مكة , ويظن البعض أنه من سكان المدينة ولكن
الأرجح أنه مكي مولدا ونشأة فهو يقول :
وأنا امرؤٌ بقرار مكة مسكني ولها هواي فقد سبت قلبي
ولم يكد عمر يتجاوز الثالثة عشرة من عمره حتى توفي أبوه , وبذلك خلّي بينه
وبين أمه الغريبة , فنشّأته كما تهوى , أو كما تنشّئ أم سبيّة فتاها الثري
ثراء مفرطاً , تترك له حبله على الغارب ليتناول من اللهو كل ما تصبو إليه
نفسه .فنشأ بتأثير غناه ودلاله مفتوناً بدنياه وبما حوله من ملاهيها , وما
ينقصه ؟ فداره تعج بالجواري والسبايا, التي كانت تكتظ بها دور نبلاء قريش
حينئذ , وليس هناك طرفة من طرف الدنيا إلا وهو يستطيع أن يقتنيها , وأن
يلهو بها ما شاء له هواه .
وكان عمر جميلاً , ولم يلبث أن تفجر في نفسه هذا الينبوع العذب , ينبوع
الشعر, مع فتنة في الحديث ورقة شعور ومزاج , فأصبح حديث الشباب , وكانت
موجة الغناء حادة كما قدمنا , وكان الشعر هو القطرات التي تعقدها في أسماع
الناس , وكان عمر يحسن إرسال هذه القطرات النفسية , فتعلّق به مجتمع مكة
تعلقاً شديداً .
لا غرو, فقد حشد ثراءه لفنه , فهو يصنع المقطوعة من شعره , ثم يطلب لها
أروع المغنين في عصره , ليغنوه فيها لحناً خالداً، ويجيزهم جوائز مختلفة ,
فهذا ابن سريج يعطيه في تلحينه لإحدى مقطوعاته ثلاثمائة دينار , وهذا
الغريض يعطيه في تلحين مقطوعة أخرى خمسة آلاف دينار, ويعطي جميلة في تلحين
مقطوعة رابعة عشرة آلاف درهم .
وهكذا كانت حياة عمر في مكة حياة شعر وغناء خالص , ولم يكن للناس حينئذ من
لهو سوى هذا الغناء وما يصاحبه من شعر , فدار اسم عمر على كل لسان .
نذر عمر حياته لهذا اللون من الغزل الصريح وأخضعه لفن الغناء الذي عاصره؛
إذ يستخدم الأوزان الخفيفة والمجزوءة، حتى يحملها المغنون والمغنيات ما
يريدون من ألحان وإيقاعات كما يستخدم لغة سهلة ، فيها عذوبة وحلاوة ، حتى
تفسح لهم في روعة النغم .
كان مجتمع مكة حينئذ تسوده ضروب من الحرية المهذبة في لقاء الرجال بالنساء
,فبرزت المرأة للشباب ولكنها تحتفظ بحجاب من الوقار، وقد كانت هناك مواسم
تكثر فيها هذه الطلبات- الظهور في مرآة شعره - على عمر وغيره من شعراء مكة ,
وذلك في مواسم الحج و إذ كانت تحشد فيها نساء العرب وفتياتهم , وكان الذوق
العربي العام لا يمنع أن يشيد شاعر بجمال امرأة , بل لعل في هذه الإشادة
ما يعرف بها وبجمالها , ولذلك كانت تطلبها المرأة العربية ولا تجد فيها
غضاضة , بل على العكس كانت تجد فيها طرافة وإعلاناً عنها وتمهيداً لأن
يطلبها الأزواج .
وهذا الذوق العام هو الذي أشاع الغزل في المرأة العربية الشريفة , وأخذ عمر
يستغله ويبعد في استغلاله لا في فتيات مكة ونسائها , بل في فتيات العرب
جميعاً ونسائهم ممن يحججن إلى مكة وتقع عينه عليهن , وكأنما كانت عينه
"عدسة " مكة في هذا العصر , فلا تمر امرأة إلا وتهب عين عمر, فيسجل صورتها ,
ومن هنا كنا نقرأ في شعره أخباراً وقصصاً عن جميلات الحواج , مثل فاطمة
بنت محمد بن الأشعث الكندية , وزوجة أبي الأسود الدؤلي , وليلى بنت الحارث
البكرية, ورملة بنت عبد الله الخزاعية وغيرهن الكثير .....
نماذج من شعره:
1-
حَدِّثْ حَديثَ فتاة ِ حَيٍّ مرّة ً بالجزعِ بين أذاخرٍ وحراءِ
قَالَتْ لِجَارَتِها عِشاءً، إذْ رَأَتْ نُزَهَ المَكَانِ وَغَيْبَة َ
الأَعْدَاءِ
في رَوْضة ٍ يَمّمْنَهَا مَوْلِيَّة ٍ مَيْثَاءَ رَابِيَة ٍ بُعَيْدَ
سَماءِ
في ظِلِّ دَانِيَة ِ الغُصُونِ وَرِيقَة ٍ نَبَتَتْ بأَبْطَحَ طَيِّبِ
الثَّرياءِ
وكأنّ ريقتها صبيرُ غمامة ٍ بردت على صحوٍ بعيدَ ضحاء:
ليتَ المغيري العشية َ أسعفتْ دارٌ بهِ، لتقاربِ الأهواءْ
إذ غابَ عنا منْ نخافُ، وطاوعتْ أرضٌ لنا بلذاذة ٍ وخلاء
قلتُ: اركبوا نزرِ التي زعمتْ لنا أن لا نباليها كبيرَ بلاءِ
بينا كذلكَ، إذ عجاجة ُ موكبٍ، رَفَعُوا ذَمِيلَ العِيسِ بِالصَّحْرَاءِ
قَالَتْ لِجَارَتِها ?نْظري ها، مَنْ أُولَى وتأملي منْ راكبُ الأدماء؟
قَالتْ أَبُو الخَطَّاب أَعْرِفُ زِيَّهُ وَرَكُوبَهُ لا شَكَّ غَيْرَ
خَفَاءِ
قَالَتْ وَهَلْ قَالَتْ نَعَمْ فَ?سْتَبْشِري ممن يحبُّ لقيه، بلقاء
قالت: لقد جاءتْ، إذاً، أمنيتي، في غيرِ تكلفة ٍ وغيرِ عناء
مَا كُنْتُ أَرْجُو أَن يُلِمَّ بأَرْضِنَا إلا تمنيهُ، كبيرَ رجاء
فإذا المنى قد قربتْ بلقائه، وأجابَ في سرٍّ لنا وخلاء
لما تواقفنا وحييناهما، رَدَّتْ تَحِيَّتَنا عَلَى ?سْتِحْيَاءِ
قلنَ: انزلوا فتيمموا لمطيكمْ غيباً تغيبهُ إلى الإماء
2-
مَرَّ بي سِرْبُ ظِباءِ رَائِحاتٍ مِنْ قُباءِ
زمراً نحوَ المصلى مُسْرعاتٍ في خَلاءِ
فتعرضتُ، وألقيتُ جلابيبَ الحياء
وقديماً كانَ عهدي، وَفُتُوني بِالنِّساءِ
3-
حيِّ الربابَ، وتربها أسماءَ، قبلَ ذهابها
إرْجِعْ إلَيْهَا بِالَّذي قالتْ برجعِ جوابها
عرضتْ علينا خطة ً مشروقة ً برضابها
وتدللتْ عندَ العتا بِ فَمَرْحَباً بِعِتَابِها
تبدي مواعدَ جمة ً، وَتَضُنُّ عِنْدَ ثَوَابِهَا
ما نلتقي إلا إذا نَزَلَتْ مِنًى بِقِبَابِها
في النَّفْرِ أَو في لَيْلَة ِ التَّحْـ ـصيبِ عِنْدَ حِصَابِهَا
أزجرْ فؤادكَ إنْ نأتْ وَتَعَزَّ عَنْ تَطْلاَبهَا
وَاشْعِرْ فُؤَادَكَ سَلْوَة ً عَنْهَا وَعَنْ أَتْرَابِها
وَغَرِيرَة ٍ رُؤدِ الشَّبا بِ النسكُ من أقرابها
حَدَّثْتُها فَصَدَقْتُها وكذبتها بكذابها
وَبَعَثْتُ كَاتِمَة َ الحَدِيـ ـثِ رفيقة ً بِخِطَابِها
وحشية ً إنسية ً خراجة ً من بابها
فرقتْ، فسهلتِ المعا رِضَ مِنْ سَبيلِ نِقَابِها
4-
خبروها بأنني قد تزوجت فظلت تكاتم الغيظ ســـرا
ثم قالت لأختها ولأخرى جزعا ليته تزوج عشــرا
وأشارت الى نساء لديها لا ترى دونهن للسر ستــرا
ما لقلبي كأنه ليس مني وعظامي أخال فيهن فتــرا
من حديث نمى إلى فظيع خلت في القلب من تلظيه جمرا
5-
رأين الغواني الشيب لاح بعارضي فأعرضن عني بالخدود النواضر
وكن اذا ابصرنني او سمعنني سعين فرقعن الكوى بالمحاجر
فان جمحت عني نواظر اعين رمين بأحداق المها والجاذر
فإني من قوم كريم نجارهم لاقدامهم صيغت رؤوس المنابر
وللحديث بقية....................